كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عباس: كان قوم منهم يحرمون ما ظهر من الزنا ويستحلون ما بطن وخفي منه.
والخدن هو الصديق للمرأة زنا بها سرا، فنهى اللّه عز وجل عن الفواحش ما ظهر منها ومن بطن، وحرم الوطء إلا على ملك نكاح أو ملك يمين، ويقرب منه نهي النبي عليه السلام: عن مهر البغي، فإنه يرجع إلى أنه أوجب المهر لحرمة الوطء وحرمة سبب الوطء وأما البغي فلا مهر لها.
قوله تعالى: {فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ}.
فقال قوم: {فإذا أحصن} بالضم يدل على التزويج، ويفهم منه أن الأمة لا يجب عليها الحد وإن أسلمت حتى تتزوج، وهو قول ابن عباس.
ومن قرأ بالفتح حمله على الإسلام، وأن عليها الحد إذا أسلمت، وهو قول أكثر العلماء في معنى الآية، ولا عبرة بالمعنيين في إيجاب الحد، فإن الحد واجب على الآمة الكافرة إذا زنت، ودلت الأخبار عليه، وعلى التسوية بين الحرة والآمة في هذا المعنى.
فإذا ثبت ذلك فإن قال قائل: فما فائدة ذكر الإحصان بمعنى الإسلام والنكاح ولا أثر لهما؟
قيل: أما الإسلام، فإنما ذكر على أحد المعنيين، لأنهن كن يحسبن البغاء مباحا، واتخاذ الخدن مباحا، وإذا جرى ذلك على اعتقاد الإباحة فلا حد.
وقوله: إذا أسلمن، يعني أن بالإسلام كن يعرفن تحريم ذلك، وقبل الإسلام ما كن يعرفن ذلك.
الوجه الآخر إن حمل قوله: {أحصن} على النكاح، فإنما ذكر النكاح حتى لا يتوهم متوهم أنه يريد عقوبتها بالنكاح كما أراد في حق الحرة إذا تزوجت فأبان اللّه تعالى أنها وإن تزوجت وهي مسلمة، فعليها مثل ما كان من قبل ثم ذكر اللّه تعالى الإحصان في حق الإماء وقال: {فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ}، ولم يرد به الرجم، إذ لا نصف له فإذا لم يرد الرجم، فلا يمكن أن يكون الإحصان في الحرة بمعنى النكاح لأن الحرة إذا أحصنت بالنكاح فعليها الرجم فيكون المراد بالمحصنة هاهنا الحرة فالإحصان في حق الأمة بمعنى النكاح وفي حق الحرة بمعنى الحرية، فاختلف معنى الإحصان باختلاف محاله.
إذا ثبت ذلك فاللّه تعالى يقول: {فَإِذا أُحْصِنَّ} الآية. ذكر حكم الأمة والحرة، وفهمت الأمة منه أن العبد والحر مثلهما في معناهما، كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ}.
والأحرار المؤمنون الغافلون كمثلهن، لأن المعنى في الكل واحد، وهذا من أجلى مراتب الأقيسة.
والشافعي رضي اللّه عنه أورد هذا المثال في باب القياس، عند ذكر مراتب الأقيسة ومثله قوله عليه السلام:
«من أعتق شركا له في عبد عتق عليه الباقي».
وبالجملة: إذا ظهر مقصود الشرع في المسكوت عنه والمنطوق به، استوى الكل في الاعتبار.
قوله تعالى: {فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ}.
يدل على جواز عطف الواجب على الندب، لأن النكاح ندب وإيتاء المهر واجب.
وقال تعالى: {فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ}.
ثم قال: {وَآتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً}.
ويصح عطف الندب على الواجب أيضا، كقوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ}، فالعدل واجب والإحسان ندب.
وقال الشافعي رضي اللّه عنه في قوله: {فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ} الكتابة ندب والإيتاء واجب.
وقال أبو حنيفة في قوله تعالى: {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ}، الحج واجب، والعمرة ندب، إلى غيره من الأمثلة.
قوله تعالى: {ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ}.
بينا معناه، وأنه حرم ذلك لئلا يكون إرقاقا للولد.
وهذا يصلح أن يفهم منه معنى التحريم، فيفهم مثل هذا الحكم في مثل هذا المحل، فمقتضاه أن لا يحرم على العبد ولا ينقطع الدوام، وهو نظر دقيق بينا وجهه من قبل، فإذا أراد أبو حنيفة حمله على معنى الاستحباب، كان متحكما، ونحن متعلقون بالأصل والظاهر.
قوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ} الآية [26].
يدل على أنه يبين لنا ما بنا حاجة إلى معرفته، إما بنص أو بدلالة نص، وذلك يدل على امتناع خلو واقعة عن حكم اللّه تعالى، فإنه لو خلت لم يكن مريدا، إلا أن يبين لنا، ومنه قال تعالى: {ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْءٍ}.
وقوله تعالى: {وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} الآية [26].
معناه في بيان مالكم فيه الصلاح كما بينه لنا، وإن اختلفت العبارات في أنفسها، إلا أنها مع اختلافها متفقة في باب المصالح.
قوله تعالى: {لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ}.
اعلم أن في الناس من ظن أن غير التجارة من الهبات والصدقات، داخل تحت قوله بالباطل، إلا أنه ينسخ بالإجماع، أو بقوله: {ليس عليكم جناح أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ}، وهذا نقل عن ابن عباس، والحسن.
والذي هو الحق، أنه لا يفهم من أكل بالباطل، تحريم الهبات التي يبتغي بها الأغراض الصحيحة، وإنما حرم اللّه تعالى أكل المال بالباطل، والباطل الذي لا يفضي إلى غرض صحيح، مثل أكل المال بالقمار والخمر والاغرار، قال اللّه تعالى: {وَلا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَتُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ}.
فالنهي مقيد بوصف، وهو أن تأكله بالباطل.
وقد تضمن ذلك: أكل أبدال العقود الفاسدة، كأثمان البياعات الفاسدة، وكل شيء ما أباحه اللّه تعالى، فأما الذي أباحه اللّه تعالى من العقود، فلا مدخل فيه.
ثم إن اللّه تعالى قال: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً}. فظاهره يقتضي إباحة سائر التجارات الواقعة عن تراض، والتجارة اسم واقع على عقود المعاوضات المقصود بها طلب الأرباح، قال اللّه تعالى: {هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ}.
فسمى الايمان تجارة على وجه المجاز، تشبيها بالتجارات التي يقصد بها الأرباح.
وقال تعالى: {يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ}، كما سمى بذل النفوس لجهاد الكفار يقصد بها الأرباح، قال اللّه تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ} الآية.
وقال تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَلَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ}.
فسمى ذلك بيعا وشراء على وجه المجاز، تشبيها بعقود الأشربة والبياعات، التي يحصل بها الأعواض.
كذلك سمى الإيمان باللّه تجارة لما يستحقون به من جزيل الثواب.
واستدل أصحاب أبي حنيفة ومالك بهذه الآية على نفي خيار المجلس، فإن اللّه تعالى قد أباح كل ما اشتري بعد وقوع التجارة عن تراض، وما يقع من ذلك بإيجاب الخيار، خارج عن ظاهر الآية مخصص لها بغير دلالة، ونظير ذلك استدلالهم بقوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ}.
فألزم كل عاقد الوفاء بما عقد على نفسه، وذلك عقد قد عقده كل واحد منهما على نفسه، فألزمه الوفاء به، وفي إثبات الخيار نفي للزوم الوفاء به، وذلك خلاف مقتضى الآية.
وقال تعالى: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلَّا تَكْتُبُوها وَأَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ}.
ثم أمر عند عدم الشهود بأخذ وثيقة الرهن، وذلك مأمور به عند عقد البيع قبل التفرق، لأن قوله تعالى: {إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ}.
فأمر بالكتابة عند عقد المداينة، وأمر بالكتابة بالعدل، وأمر الذي قد أثبت الدين عليه بقوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا}.
فلو لم يكن عقد المداينة موجبا للحق عليه قبل الافتراق لما قال: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}. ولما وعظه بالبخس وهو لا شيء عليه، لأن ثبوت الخيار له يمنع ثبوت الدين للبائع في ذمته، وفي إيجاب اللّه تعالى الحق عليه بعقد المداينة في قوله: {وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ}، دليل على نفي الخيار وإيجاب الثبات.
ثم قال: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ} تحصينا للمال، وقطعا لتوقع الجحود، ومبالغة في الاحتياط.
وقال تعالى: {وَلا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَأَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً}.
فلو كان لهما الخيار قبل التفرق لم يكن في الشهادة احتياط، ولا كان أقوم للشهادة إذا لم يمكن إقامة الشهادة بثبوت المال.
ثم قال تعالى: {إِذا تَبايَعْتُمْ}، وإذا: كلمة تدل على الوقت، فاقتضى ذلك الأمر بالشهادة عند وقوع التبايع من غير ذكر الفرقة، فأمر برهن مقبوضة في السفر، بدلا من الاحتياط بالاشهاد في الحضر، وفي إثبات الخيار إبطال الرهن إذ غير جائز إعطاء الرهن بدين لم يجب بعد.
فدلت الآية بما تضمنته من الأمر بالإشهاد على عقد المداينة، والتبايع من غير تعوض للافتراق أن لا خيار، إذ كان إثبات الخيار مانعا معنى الاشهاد والرهن، فهذا كلام الرازي بأحكام القرآن حكيناه بلفظه، والجواب عنه: أن اللّه تعالى وتقدس، أمر بالإشهاد والكتابة بناء على غالب الحال في أن الشهود يطلعون على الافتراق والبيع جميعا، وليس للبيع مما يدوم غالبا أو يتمادى زمانه، حتى يجري الإشهاد على أحدهما دون الآخر، فأراد اللّه تعالى بيان الوثائق على ما جرت به العادة من البيع، ويدل على ذلك، أن قبل القبض لا ينبرم العقد في البيع وفي الصرف، وإذا تفرق المتبايعان بطل الصرف، وإذا هلك المبيع قبل القبض بطل البيع، فتبطل الوثائق جملة، وذلك لم يمنع الإرشاد إلى الوثائق في البياعات والمداينات، وكذلك بالقول في خيار الرؤية فيما لم يره في خيار الشرط، فلا حاصل لما قاله هؤلاء فاعلمه.
ووراء ذلك تعلق الرازي بفنون، يفع الجواب عنها في مسائل الخلاف، لا تعلق لها بمعاني القرآن، وذلك عادته، فإنه إذا انتهى إلى مسألة مختلف فيها، بين أبي حنيفة وغيره، يستقصي الكلام فيها فيما يتعلق بالخبر والقياس، ويخرج بها عن مقصود الكتاب.
قوله تعالى: {وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ} الآية. معناه:
لا يقتل بعضكم بعضا، وهو نظير قوله تعالى: {وَلا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ} أي حتى يقتلوا بعضكم، ومجازه أنهم كالشخص الواحد، والمؤمنون كالبنيان يشد بعضه بعضا.
ويحتمل أن يقال: ولا تقتلوا أنفسكم في الحرص على الدنيا وطلب المال، بأن يحمل نفسه على الغرر المؤدي إلى التلف.
ويحتمل «ولا تقتلوا أنفسكم» في حال ضجر أو غضب.
قوله تعالى: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْوانًا وَظُلْمًا}.
الوعيد في ذلك يجوز أن يرجع إلى أكل المال بالباطل، وقتل النفس بغير حق، ويجوز أن يرجع إلى كل ما نهى اللّه عنه فيما تقدم، وقيد الوعيد بذكر العدوان والظلم، ليخرج منه فعل السهو والغلط، وذكر الظلم والعدوان مع تقارب معانيهما لاختلاف ألفاظهما، حسن في الكلام، كما يقال: «ألفى قولها كذبا ومينا»، وحسن العطف لاختلاف اللفظين، يقال بعدا وسحقا، وحسن لاختلاف اللفظ.
قوله تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ}، الآية [32].
ورد في تفسيره عن مجاهد عن أم سلمة قالت: قلت: يا رسول اللّه، تغزوا الرجال ولا تغزوا وتذكر الرجال ولا نذكر، فأنزل اللّه تعالى: {وَلا تَتَمَنَّوْا} الآية.